كوريغرافيا الجسد المختزل

الزبير بن بوشتى

2016

Texte Traduit en français

يصعب التطرق لتجربة عبد القادر المليحي وجيله دون العودة إلى جذورها المنغرسة في تربة موسم أصيلة الثقافي الذي أرخى بظلاله على جزء هام من تاريخ الفن التشكيلي المغربي المعاصر. فهو من الأسماء الشابة التي ترعرعت بين أحضان محترفات وجداريات ومعارض أصيلة. احتك بالأسماء والتجارب التي كانت تقصد الموسم من الجهات الأربع للعالم. لم يكن ليستأنس بها وحسب، بل واشتغل معها جنبا إلى جنب في محترف الحفر لمواسم متتالية إذ ارتشف من معين تجاربها ودربتها بينما هو يتابع تكوينه الفني في المدرسة الوطنية للفنون الجميلة بتطوان (1986 - 1988). لذلك فقد طفحت أعماله الأولى - شأنه في ذلك شأن أغلب فناني جيله - بمحاولة الاقتراب من موروث الذاكرة حيث الحناء والجلد و الخط العربي ورموز الحلي والحنابل الأمازيغية وما جاورها من فنون تقليدية تمنح إمكانيات لا تضاها لتَمثُّل معاصر لذاكرة جمعية حية. وإمعانا منه في شحذ تجربته اليافعة وصقلها بالتكوين الأكاديمي الأمثل سيغير الوجهة إلى فرنسا حيث سيتابع تكوينه العالي بمدرسة الفنون الجميلة بأونغوليم (1988 - 1991). بحلوله في فرنسا كان عبد القادر المليحي يتأبط إرثا لابأس به من الدهشة والمغامرة. فما كان منه إلا أن انساق مباشرة بعد استكمال التكوين، إلى الدخول في غمار الاشتغال في ترميم المباني التاريخية مما أكسبه اطلاعا واسعا على تاريخ المعمار الكاتيدرائي والكنيسي الروماني منه والوسيط. وبما أن كل فنان تشكيلي له ميولات واهتمامات غريزية بالهندسة والمعمار، فقد وجد عبد القادر المليحي ضالته في هذا المجال الذي أضاف إلى رصيده الجمالي والتشكيلي معرفة بالأبجدية المعمارية ببعديها التاريخي والفكري مكنته من استرجاع غنى النسيج المعماري التاريخي - خاصة البرتغالي منه - لمدينته أصيلة. من هنا سيدشن المليحي رحلته من المعمار إلى الجسد محاولا بحدس الفنان أنسنة المجال معتبرا إياه جسدا شبيها بجسد الإنسان. فمرجعية الإنسان الأولى هي جسده، حسب د.عبد الصمد الديالمي، الشيء الذي قاده إلى إسقاط نظام جسده على المجال فأصبح المجال رمزا للجسد ولأعضائه. و يبدو أن المليحي لا يهمه من الجسد إلا أعضاؤه خاصة منها الساق. فهو لا يمل من إسقاط الجسد على المجال فيحيله إلى إيقاعات توقعها سيقان تداعب مجالها، فمادام الجسد هو رحم كل منطق مجالي كما يخبرنا ميرلو بونتي، و يظل مقياس كل أبعاد العالم. لقد اختار المليحي أن يقيس أبعاد العالم من خلال الجسد و أن يركز رؤيته منه وإليه من خلال عضو من أعضائه. فتراه لا يهمه منه إلا إيقاعاته التي تعرف كيف تموسقها السيقان التي هي الأقرب إلى نبض الأرض. سيقان ذات أقدام لا تطأ الأرض تارة أو متطلعة إلى الأعلى تارة أخرى. يحلو لها أن توقع خطواتها في فراغ... فراغ الأعلى أو فراغ الأسفل سيان. سيقان تتشابك فيما بينها فيختلط على رائيها أمرها. فهل هي لشخصين أم لأكثر. حشد من السيقان ما يهم مبدعها منها إلا الإيقاع الذي توقعه في الوجود. إيقاع الشكل، إيقاع اللون، إيقاع الخربشات التي تملأ فراغاتها وكأنها نسيج عضلات المعنى. تبدو إزاءها القماشيات و كأنها كوريغرافيات ترسم للسيقان رقصاتها على بساط من فراغ.

لقد أدرك المليحي بغريزيته ما توصل إليه Merleau-Ponty ميرلو بونتي إلى ”أن الجسد مجال معجمي يتكون من مناطق دلالية يمكن اعتبارها وحدات جسدية- دلالية تبين أن الجسد فضاء ينظم العالم.“ لذلك فهو هنا يملأه بإيقاع الروح وقد اختزل الأجساد الراقصة في سيقان تتشابك، تتعانق كما الأشجار تتلاقح في عنفوان الغابة. إيقاعات تموسقها خربشات تحتل من العضلة صلبها فيحيلها اللون إلى لغة تتحدث الحركة على إيقاع سيقان تأبى المشي توقا للطيران أو إمعانا في الإبحار. إبحار لزوردي الرغبة و تحليق بنفسجي الأحلام. كم رقصة تكفيك لتقاسم هذه اللوحات إيقاعها المتمرد على جسد الكائن؟ سيقان اختارت لغتها بمعزل عن باقي الجسد. ترقص له ومن خلاله، تبغي التحرر من صورة الإكتمال التي ظلت راسخة بالأذهان عن الجسد المكتمل. إنه هنا يتشظى إيقاعات وألوانا مولدا حركته المنصهرة في منظومة المجال. هل هو زمن التشظي هذا الذي يضع له المليحي سمفونية السيقان الراقصة؟ سيقان ترتجل كينونتها و إن ابتغى باقي الجسد غير ذلك. ترتجل إيقاعها كما موسيقى الجاز في نغماتها الصاعدة من ينابيع الألم الإنساني. أَلَمٌ تهندسه إيماءات سيقان تتداخل وتتشابك وكأنها في احتماء ببعضها البعض من بطش يتربصها أو اغتصاب أَلَمَّ بها فأحست له ثانية فالتأمت. ما معنى أن يموسق الحزن سيقانا في حركاتها المتناغمة و كأنها تبغي البكاء حنينا على أمس مضى أو على صبح يأبى الإنبلاج؟

يعتصر المليحي تقنيته مادة تحيل اللغة التشكيلية تعبيرا عن هذا الشوق وعن هذا الحنين وقد أضحت نقوشات مبهمة على ورق عجنه الفنان وعالجه قبل أن يصير جزء من القماش. يدويا يعيد المليحي صناعة ورقه قبل أن يشرع في استعماله مسترشدا بالمصريين القدماء صناع ورق البردي عسى أن يصير ورقه المعجون بيديه روحا ينفخها في قماشياته. وههي العبارة لا تتوانى في أن تقبل علينا حارة في تخطيطاتها الميكروسكوبية. فهي لا تفصح عن انتمائها بالرغم من طراوة خطابها، فماهي باللغة المسمارية ولا باللغة التصويرية ولا تدعي لنفسها إنتماء ساميا أو غير سام. إنها فقط تخطيطات تُحس ولا تُقرأ. يراها الرائي برؤية من يتقن الإنصات لإيقاع الروح الذي ترتجلها السيقان، عبر موسيقى تترجمها الألوان دافئة حارة وكأنها صادرة لتوها عن عازف جاز اجترح نغماتها من غصة حزن إنساني عميق لا تندمل جراحه.

رموز و علامات جسد استعارت من القناع الإفريقي ما انتقاه الفنانون الزنوج القدماء من معتقدات في الدين والسحر، وقد ابتكروا زونجتهم من انتمائهم الروحي والوجداني هذا الذي يميزهم عن باقي العالم بطريقة تفكيرهم و نظرتهم الجريئة والجسورة للجسد. ولعل المليحي - من خلال السيقان المنقوشة - يبغي التأكيد على أن الكتابة على الجسد أو على أجزاء منه (الوجه والساعد مثلا) ظلت منذ غابر الأزمان لغة التصقت بالإنسان ليفصح عبرها عن مكنون الذات وانتماءاتها الدينية والدنوية، الثقافية والإجتماعية.

خربشات نقش تحيلنا على لغة الوشم كتعبير طقوسي عتيد الأوتاد في جغرافية المغرب الأمازيغي العميق، وقد ترجمته الأزمنة علامات ورموز وشمٍ على صفحات وجوه وعلياء جباه الأمازيغيات آلاما ومعاناة وليس فقط أبجدية الزينة والتجميل. يحكي لنا عبد القادر المليحي عن ملحمة الوشم الذي استطاع السفر من العصور البدائية الغابرة إلى عصرنا الحاضر إذ استوطن اليوم الجسد الإنساني المعاصر واستبد به كفن عابر للأجساد التي عولمها التاتواج.